الجزائر.. بين هزائم الدبلوماسية واستراتيجية الاستفزاز الإعلامي
مع توالي الانتكاسات الدبلوماسية التي لحقت الجزائر في ملف الصحراء المغربية، ومع تزايد عزلة مشروعها السياسي في ظل الدعم الدولي المتنامي لمبادرة الحكم الذاتي، بدا واضحًا أن النظام الجزائري اختار تغيير استراتيجيته. فبعدما أرهقه سعيه لفرض أطروحته الانفصالية دون جدوى، اتجه إلى خيار بديل: تصعيد الاستفزاز الإعلامي وتحويل الأنظار عن أزماته الداخلية.
1 ـ الاستفزاز الإعلامي كأداة سياسية:
إن حملات الجزائر الإعلامية مؤخرًا ما هي إلا تجلٍ واضح يعكس محاولات يائسة لاستفزاز المغرب من جهة، ومحاولة توحيد الجبهة الداخلية الجزائرية ضد "عدو خارجي" مفترض من جهة أخرى.
نشر مقالات مفبركة واستضافة شخصيات من العالم الافتراضي وإلباسهم جلباب "المعارض" مثل بعض المرتزقة بإسم الريف والريفيين ليس سوى محاولة لتصدير أزمات النظام الجزائري السياسية والاجتماعية إلى الخارج، وإظهار النظام في ثوب المدافع عن "الشعوب المضطهدة"، وهي رواية تآكلت مصداقيتها بفعل الحقائق الميدانية.
2 ـ اتفاقية مراكش 1989: مبادئ منتهكة
في عام 1989، اجتمعت دول المغرب العربي في مراكش لتوقيع اتفاقية تأسيس الاتحاد المغاربي، التي تضمنت في مادتها الثامنة بندًا صريحًا ينص على: "يلتزم الدول الأعضاء في الاتحاد بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، والامتناع عن أي عمل يمكن أن يمس بسيادة أو استقرار الدول الأعضاء الأخرى."
رغم ذلك، انتهكت الجزائر هذا المبدأ بشكل واضح، من خلال دعمها العلني لجبهة البوليساريو واستقبالها لشخصيات انفصالية مثل بعض دعاة انفصال الريف.
هذا السلوك يتنافى مع الالتزام الذي تعهدت به الجزائر عند التوقيع، ويكشف تناقضًا بين أقوالها التي تدعو إلى الوحدة المغاربية وأفعالها التي تهدد استقرار المغرب والمنطقة ككل.
إن استغلال الجزائر لقضايا داخلية ذات أبعاد اجتماعية مثل احتجاجات الريف، ومحاولة تدويلها، يكشف عن محاولتها زعزعة استقرار المغرب في تناقض صارخ مع المبادئ التي تأسس عليها الاتحاد المغاربي.
فهل تتحلى الجزائر بالجرأة السياسية و الاخلاقية اللازمتين لتعلن انسحابها من هذه الاتفاقية؟
3 ـ إرث ثقيل: 700 مليار دولار ضاعت هباءً
منذ اندلاع النزاع في الصحراء المغربية، أنفقت الجزائر مبالغ طائلة على دعم البوليساريو وتمويل حملات دعائية ضد المغرب.
التقديرات تشير إلى أن النظام الجزائري صرف أكثر من 700 مليار دولار خلال خمسة عقود، ليس لتحقيق التنمية لشعبه، بل لتحقيق وهم السيطرة على منفذ إلى المحيط الأطلسي.
هذه السياسة أنهكت الاقتصاد الجزائري وحوّلت البلد إلى مستورد شبه كلي لمعظم احتياجاته الأساسية، في ظل غياب رؤية تنموية حقيقية.
و دبلوماسيًا، تقلصت دائرة الدعم الدولي لأطروحة الجزائر، مقابل تنامي التأييد لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية.
4 ـ التناقض مع روح الجوار:
السياسة الجزائرية تجاه المغرب تعكس تناقضًا مع مبادئ الجوار الإقليمي. فبدلًا من العمل على تحقيق التنمية المشتركة وتعزيز الاتحاد المغاربي، اختارت الجزائر استثمار أموالها في مشروع عدائي لا يخدم سوى قياداتها السياسية، على حساب مصالح الشعب الجزائري ومستقبله.
5 ـ دبلوماسية مغربية هادئة: رؤية جلالة الملك المتبصرة وغير المتسرعة
و بالمقابل، و في خضم التصعيدات المتزايدة من جانب الجزائر، يتابع المغرب بقيادة جلالة الملك محمد السادس دبلوماسية متبصرة وهادئة، قوامها التأني والذكاء الاستراتيجي. فالمملكة المغربية تحت قيادة جلالته تواصل التركيز على بناء تحالفات قوية وتعزيز مكانتها على الساحة الدولية دون التورط في صراعات مدمرة أو الانجرار وراء استفزازات الجوار.
جلالة الملك محمد السادس، الذي أثبت في أكثر من مناسبة حكمته في التعامل مع الأزمات الإقليمية والدولية، يتبنى نهجًا دبلوماسيًا متوازنًا يقوم على مبدأ الهدوء في التصرف و الحكمة في الرد. هذه الرؤية المتبصرة تقوم على تجنب التصعيدات العاطفية أو السياسية التي قد تؤدي إلى تدهور الوضع الإقليمي، مع الحفاظ في الوقت نفسه على موقف حازم وثابت بشأن قضايا المملكة الجوهرية، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية.
لقد تجنب المغرب الانجرار إلى التصريحات العدائية أو التصعيدات العسكرية، بل اختار تعزيز دبلوماسيته من خلال مواقف سياسية هادئة ومستندة إلى الحقائق القانونية والتاريخية. رؤية جلالته المتبصرة هي رؤية ترتكز على الاستثمار في المستقبل عبر الدبلوماسية الناعمة التي تعتمد على بناء الثقة المتبادلة مع مختلف القوى الدولية والإقليمية، وكذلك على تعزيز التعاون المشترك لتحقيق التنمية المستدامة.
خاتمة: حكمة البناء أمام حماقة التصعيد
إن النظام الجزائري، الذي استنزف ثرواته الوطنية في معركة عبثية، بات أمام خيارين: إما مراجعة سياساته العدائية والانخراط في شراكة تنموية حقيقية مع جيرانه، أو الاستمرار في سياسة التصعيد التي لن تؤدي إلا إلى مزيد من العزلة.
في المقابل، يثبت المغرب أن القوة ليست في خلق النزاعات، بل في القدرة على بناء استقرار داخلي وتنمية شاملة تعزز موقعه الدولي.
وإذا كانت الجزائر قد اختارت ثقافة المنهزم، فإن المغرب ماضٍ في طريق الحكمة والإنجاز، مؤكدًا أن المستقبل لا يبنى بالأوهام، بل بالعمل والتخطيط.
وكما قال جلالة الملك محمد السادس في خطاب العرش بتاريخ 30 يوليوز 2023، الذي يعكس رؤيته حول الحوار والسلام: "إن المغرب، الذي يرفض لغة التصعيد، يؤكد أنه لا يمكن لأحد أن يفرض عليه الحلول، وإنما الحل يجب أن يكون عبر الحوار الجاد والمثمر، والاحترام المتبادل بين جميع الأطراف، وفي إطار المبادئ التي لا تقبل المساس بالسيادة الوطنية".